فضيلة العلامة د. صالح بن فوزان الفوزان : الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، جعل لكل موجود في هذه الدنيا زوالاً ، ولكل مقيم انتقالاً ، ليعتبر بذلك أهل الإيمان ، فيبادروا بالأعمال ، ماداموا في زمن الإمهال ، ولا يغتروا بطول الآمال ، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال ، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله القائل : ( بادروا بالأعمال ) . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل ، وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى ، وتفكروا في سرعة مرور الليالي والأيام ، واعلموا أنها تنقص بمرورها أعماركم ، وتطوى بها صحائف أعمالكم ، فبادروا بالتوبة والأعمال الصالحة قبل انقضاء الفرصة السائحة .
عباد الله : كنتم بالأمس القريب تستقبلون شهر رمضان المبارك ، واليوم تودعونه مرتحلاً عنكم بما أودعتموه ، شاهدًا عليكم بما عملتموه ، فهنيئًا لمن كان شاهدًا له عند الله بالخير ، شافعًا له بدخول الجنة والعتق من النار ، وويلٌ لمن كان شاهدًا عليه بسوء صنيعه . شاكيًا إلى ربه من تفرِيطه فيه وتضييعه ، فودعوا شهر الصيام والقيام بخير ختام ، فإن الأعمال بالخواتيم ؛ فمن كان محسنًا في شهره فعليه بالإتمام ، ومن كان سيئًا فعليه بالتوبة ، والعمل الصالح فيما بقي له من الأيام ، فربما لا يعود عليه رمضان بعد هذا المهام ، فاختموه بخير ، واستمروا على مواصلة الأعمال الصالحة التي كنتم تؤدونها فيه في بقية الشهور . فإن رب الشهور واحد ، وهو مطلع عليكم وشاهد ، وقد أمركم بفعل الطاعات في جميع الأوقات ، ومن كان يعبد شهر رمضان فإن شهر رمضان قد انقضى وفات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، فليستمر على عبادته في جميع أيام الحياة ؛ فإن بعض الناس يتعبدون في شهر رمضان خاصةً ، فيحافظون فيه على الصلوات في المساجد ، ويكثرون من تلاوة القرآن ، ويتصدقون من أموالهم ، فإذا انتهى رمضان تكاسلوا عن الطاعة ، وربما تركوا الجمعة والجماعة ، فهدموا ما بنوه ، ونقضوا ما أبرموه ، وكأنهن يظنون أن اجتهادهم في رمضان يكفر عنهم ما يجري منهم في السنة من القبائح والموبقات ، وترك الواجبات ، وفعل المحرمات ، ولم يعلموا أن تكفير رمضان وغيره للسيئات ، مقيد باجتناب الكبائر والموبقات ، قال تعالى : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) . [ النساء : 31 ] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن ، إذا اجتنبت الكبائر ) ، وأي كبيرةٍ بعد الشرك أعظم من إضاعة الصلاة !؟ وقد صارت إضاعتها عادةً مألوفة عنه بعض الناس .
إن اجتهاد هؤلاء في رمضان لا ينفعهم شيئًا عند الله إذا هم أتبعوه بالمعاصي من ترك الواجبات وفعل المحرمات .
وقد سئل بعض السلف عن قوم يجتهدون في شهر رمضان ، فإذا انقضوا ضيعوا وأساؤوا ، فقال : ( بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان ) . نعم ؛ لأن من عرف الله خافه في كل الزمان .
وبعض الناس قد يصوم رمضان ويصلي فيه ويظهر الخير ويترك المعاصي لا إيمانًا واحتسابًا ، وإنما يفعل ذلك من باب المجاملة والمجاراة للمجتمع ؛ لأنه يعتبر هذا من التقاليد الاجتماعية ، وهذا هو النفاق الأكبر ، فإن المنافقين كانوا يراؤون الناس فيما يتظاهرون به من العبادة ، وهذا يعتبر شهر رمضان سجنًا زمنيًا ينتظر انقضاءه لينقض على المعاصي والمحرمات ، يفرح بانقضاء رمضان لأجلِ الإفراج عنه من سجنه .
روى ابن خزيمة في " صحيحه " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أضلكم شهركم هذا محلوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه ، ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه ، بمحلوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يدخله ، ويكتب وزره وشقاءه قبل أن يدخله ، وذلك أن المؤمن يعد فيه القوت والنفقة للعبادة ، ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم ؛ فغنم يغنمه المؤمن ) . [ الحديث ] .
والمؤمن يفرح بانتهاء الشهر ؛ لأنه استكمله في العبادة والطاعة ، فهو يرجو أجره وفضائله ، والمنافق يفرح بانتهاء الشهر لينطلق إلى المعاصي والشهوات التي كان مسجونًا عنها في رمضان ، ولذلك فإن المؤمن يتبع شهر رمضان بالاستغفار والتكبير والعبادة ، والمنافق يتبعه بالمعاصي واللهو وحفلات الغناء والمعازف والطبول فرحًا بفراقه .
عباد الله : لقد شرع الله لكم في ختام هذا الشهر التكبير في ليلة العيد ، قال تعالى : ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . [ البقرة : 185 ] .
وشرع لكم صدقة الفطر ؛ فهي واجبة على الكبير والصغير ، والذكر والأنثى ، والحر والعبد ، ويستحب إخراجها عن الحمل في البطن ، وهي من غالب قوت البلد تمرًا أو برًا أو شعيرًا أو زبيبًا أو أقطًا ومقدارها صاع عن كل شخص - أي : ما يعادل ثلاثة كيلوات تقريبًا ، ويجزئُ عن هذه الخمسة كل حب يقتات في البلد : الأرز والذرة والدخن ، ولا الطعام وقدره بالصاع ، فلا بد من التقيد بأمره - صلى الله عليه وسلم - .
قال الإمام أحمد : ( لا يعطي القيمة ، قيل له : قوم يقولون : عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة ، قال : يدعون قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويقولون : قال فلان ، فما دام في المسألة قول للرسول فلا قول لأحد ) .
ويخرج الإنسان صدقة الفطر عن نفسه وعمن يقوم . بنفقه ، ومحل إخراجها هو البلد الذي وافاه تمام الشهر وهو فيه ، ومن كان في بلده وعائلته في بلد آخر فإنه يخرج فطرتهم مع فطرته في البلد الذي هو فيه ، وإن عمدهم يخرجون عنه وعنهم في بلدهم جاز ، وإن أخرج عن نفسه في بلده وأخرجوا عن أنفسهم في بلدهم جاز .
والذين يعطون صدقة الفطر هم فقراء البلد الذين تحل لهم زكاة المال ، سواءً كانوا من أهل البلد أو من الفقراء القادمين عليه من بلد آخر .
ولا يجوز نقل صدقة الفطر إلى بلدٍ آخر بأن يرسلها إلى فقراء بلد غير بلده ، إلا إذا لم يوجد في بلده فقراء من المسلمين ، فإنه يرسلها إلى أقرب بلد إليه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراجها إلى فقراء البلد الذي يفطُر فيه الصائم ليلة العيد .
وقد نص على ذلك فقهاء المذاهب الأربعة : فقد نصوا - رحمهم الله - على أن على المسلم توزيعها في البلد الذي وجبت عليه فيه ؛ فعلى هذا لا يجوز إرسالها إلى الفقراء الجهات الأخرى خارج المملكة ، ومن أراد أن يساعد فقراء البلدان الأخرى فليساعدهم بغير صدقة الفطر ؛ لأن صدقة الفطر عبادة مقيدة بمكان وزمان ، لا يجوز إخراجها عنهما ، وقد ذكر لنا أن قومًا يطلبون من الناس تقديم دراهم ليرسلوها إلى بلد آخر ليشتري بها طعام من هناك ، ويوزع على الفقراء فيه ، وهذا لا يجزئ عن صدقة الفطر لأن وقت إخراجها ليلة العيد ، بعد ثبوت الهلال إلى الخروج لصلاة العيد في البلد الذي وافاه تمام الشهر وهو فيه ، والعبادات توقيفية لا يجوز التصرف فيها حسب الأهواء والآراء ، ومن فاتته إخراجها قبل صلاة العيد فإنه يخرجها في بقية يوم العيد ، ومن فاته إخراجها في يوم العيد فإنه يخرجها بعده قضاء ، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين ولا بد أن تدفع في وقت الإخراج إلى المستحق أو إلى وكيله ، ولا يكفي أن يجعلها أمانة عند شخص ليس وكيلاً للمستحق ، ويجوز للفقير أن يخرج فطرته مما أعطي من الصدقات ، ويجوز دفع صدقة الجماعة إلى فقير واحد ، ويجوز دفع صدقة الشخص الواحد إلى جماعة من الفقراء ، والحكمة في صدقة الفطر أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين وشطر لله تعالى على إكمال الصيام .
فأدوها - رحمكم الله - ، على الوجه المشروع طيبة بها نفوسكم من أوسط ما تطعمون أهليكم : ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ . الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) . [ البقرة : 267 - 268 ] .
ومن الحكمة من مشروعية صدقة الفطر إغناء الفقراء عن السؤال في يوم العيد ليفرحوا مع المسلمين ، ويتوسعوا بها ، ولذلك حددت بما يكفي الفقير في هذا اليوم وهو الصاع ، ومن الحكمة في تحديدها بالصاع أيضًا تيسيرها على المتصدق حتى لا تثقله ، لأنه قد لا يكون عنده سعة من المال ، وهي واجبة على عموم المسلمين لا على الأغنياء فقط ، ولعل الحكمة في جعلها طعمًا ولا نقودًا أن يكون هذا أيسر للمحتاج ، لأنه قد لا يجد في يوم العيد من بيع الطعام ، ولأن في جعلها طعامًا إظهارًا لها بين الناس ، لأنها من الشعائر الظاهرة ، ولو جعلت نقودًا لكانت صدقة خفية إلى غير ذلك من الحكم .
فاتقوا الله - عباد الله - ، واعتنوا بإخراجها . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) . [ الأعلى : 14 - 15 ] .
أيها الناس : اتقوا الله تعالى في سائر الليالي والأيام ، فإنه رقيبٌ لا يغيب ، قيوم ولا ينام .
عباد الله : ومما شرعه الله لكم في ختام هذا الشهر المبارك أداء صلاة العيد شكرًا لله تعالى على أداء فريضة الصيام ، كما شرع الله صلاة عيد الأضحى شكرًا له على أداء فريضة الحج ، فهما عيد أهل الإسلام ، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما قدم المدينة وكان لأهلها يومان يلعبون فيهما ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( قد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما : يوم النحر ويوم الفطر ) ، فلا تجوز الزيادة على هذين العيدين بإحداث أعياد أخرى كأعياد المولد ، والأعياد الوطنية والقومية ؛ لأنها أعياد جاهلية ، سواء سميت أعيادًا ، أو ذكريات ، أو أيامًا أو أسابيع ، أو أعوامًا ؛ كاليوم الوطني ، وعام الطفل ، وما أشبه ذلك .
وسمي العيد في الإسلام عيدًا ؛ لأنه يعود ويتكرر كل عام بالفرح والسرور بما يسر الله قبله من عبادة الصيام والحج اللذين هما ركنا من أركان الإسلام ، ولأن الله سبحانه يعود فيهما على عباده بالإحسان والعتق من النيران ، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخروج العام لصلاة العيد حتى النساء ، فيسن حضورهن غير متطيبات ولا لابسات لثياب زينة وشهرة ، ولا يختلطن بالرجال ، والحائض تخرج لحضور دعوة المسلمين وتعتزِل المصلَّى ، قالت أُم عطية - رضي الله عنها - : ( كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خِدْرِها ، وحتى تخرج الحيض فيكن خلف النساء فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم ، يرجون ذلك اليوم وطهرته ) .
والخروج لصلاة العيد إظهار لشعائر الإسلام وعلم من أعلامه الظاهرة . فاحرصوا على حضورها - رحمكم الله - ؛ فإنها من مكملات أحكام هذا الشهر المبارك ، واحرصوا على الخشوع ، وغض البصر وعدم إسبال الثياب ، وعلى حفظ اللسان من اللغو والرفث وقول الزور ، وحفظ السمع من استماع القيل والقال ، والأغاني والمعازف والمزامير ، ولا تحضروا حفلات السمر واللهو واللعب التي يقيمها بعض الجهال ، فإن الطاعة تتبع بالطاعة لا بضدها ، ولهذا شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته اتباع صوم شهر رمضان بصوم ستة أيام من شوال ، فقد روى الإمام مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من صام رمضان ، وأتبعه بست من شوال ، فكأنما صام الدهر كله ) . يعني : في الأجر والثواب والمضاعفة ؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها ، فرمضان عن عشرة أشهر ، وستة الأيام من شوال عن شهرين ، وهذه أشهر السنة كأنما صامها المسلم كلها إذا صام رمضان ، وأتبعه ستًا من شوال . فاحرصوا - رحمكم الله - ، على صيام هذه الأيام الستة لتحظوا بهذا الثواب العظيم .
واتقوا الله - عباد الله - ، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ ، شذ في النار .