فضيلة العلامة عبيد بن عبد الله الجابري : إن
الحمد لله ، نحمده ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا
تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) . [ آل عمران : 102 ] . ( يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) . [ النساء : 1 ] . ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا .
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ
يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) . [ الأحزاب :
70 - 71 ] . أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ،
وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكل ضلالة في
النار .
أيها المسلمون : في محكم التنزيل ، الذي هو خير القيل ، ( لَا يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) . [ فصلت : 42 ] ، يقول الحق - جلَّ ثناؤه ، وتقدست
صفاته وأسماؤه - : ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا
يَكْسِبُونَ ) . [ المطففين : 14 ] .
والمعنى : أن الأمر ليس كما يزعم الكفار ؛ أن ما أوتيه محمد - صلى الله
عليه وسلم - من تنزيل الله ووحيه هو أساطير الأولين ، لكن خيم على قلوب
هؤلاء وغطى عليها - حتى لا يصلها شيءٌ من الحق ولا تنشرح لقبول الحق - ما
كانوا يكسبونه من الكفر ، الذي حملهم على رد ما جاء به محمد - صلى الله
عليه وسلّم - .
عباد الله : واعلموا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، يوضح هذا قوله
- صلى الله عليه وسلم : ( إن العبد إذا أذنب الذنب نكت في قلبه نكتة سوداء
، فإن هو تاب ونزع واستغفر صقل ، ولا يزال العبد يذنب الذنب ، فذالكم
الران ، ثم تلى ذالكم الآية : ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا
كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . [ المطففين : 14 ] .
فهذا الحديث - يا عباد الله - نصٌ صريحُ في الدلالة على أن المعاصي إذا أصر
عليها العبد واستحلها واستعبدها ؛ حجبت عن قلبه نور الهداية ، فيصبح لا
يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا .
قال الحسن البصري - رحمه الله - في معنى هذه الآية : ( هو الذنب على الذنب
حتى يعمى القلب فيموت ) .
وبقول الحسن - هذا - قال غير واحد من الأئمة ؛ منهم : مجاهد بن جبر ،
وقتادة بن دعامة السدوسي ، رحم الله الجميع .
أيها المسلمون : من نظر في الكتاب الكريم ، وفيما صح به النقل عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - ، وجد فيهما من الأدلة على مثل ما أفادته هذه الآية ،
والحديث الآخر الذي بعدها - وهو حديث صحيح - ، وكلها متضافرة على أن الله -
سبحانه وتعالى - جعل المعاصي مجلبة لأليم عقابه ، وعظيم سخطه ، ومن تلكم
الآيات في الدلالة على هذا المعنى - أيها المسلمون - ، قول الحق - جلَّ
ثنائه - : ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ . وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) . [
الشورى : 30 - 31 ] .
ولئن اغترَّ أناس بما يتظلل فيه العصاة والظلمة والفساق من وافر النعم ؛ من
صحةٍ وجاه ومنصب وأموال وبنين ، فإن هذا مما مضت به سنة الرب - جل وعلا -
وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، فإنه - سبحانه وتعالى - يمهل ولا يهمل
، ويوضح هذا - يا عباد الله - قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله
ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ... وقرأ : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) .
أيها المسلمون : ألستم تسمعون وتقرؤون وتلحظون فشو أمراض فتاكة ، استعصت
على الأطبة !؟ وتلكم الأمراض الفتاكة ؛ مثل : الإيدز ، والسيلان ، والزهري
لم تكن معروفة فيمن مضى من أسلافكم .
ألستم - يا عباد الله - تعانون من شدة المؤونة والكلفة في المعيشة ، ارتفاع
أسعار وشح موارد !؟
ألستم - أيها المسلمون - ترون رأي العين وتشاهدون ما حل بالعباد والبلاد من
شدة الجدب والقحل وشح المياه وغورانها ؛ حتى هلك كثير من الحرث والنسل !؟
ألستم - أيها المسلمون - تعلمون ما جرى من تسلط الكفار - أعداء الله وأعداء
رسوله - على بعض أقطار المسلمين ، فاستباحوا فيها الحرمات ، وانتهكوا
الأعراض ، واغتصبوا الأموال !؟
ألستم تدركون سماعًا - كأنه رأي العين - ما حل بالمسلمين من الحروب الطاحنة
فيما بينهم ، فأصبح القوي يأكل الضعيف ، وما نجا إلا من رحم الله !؟
عباد الله : أخبر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وخبره الصدق وقوله الحق -
عما حلَّ وسوف يحل ، ونسأل الله العافية في الدين والدنيا والآخرة - ، ومما
صحّ به النقل عنه ما أخرجه أحمد وابن ماجة القزويني من حديث عبد الله بن
عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يا معشر
المهاجرين : خمس خصال إذا ابتليتم بهنّ - وأعوذ بالله أن تدركوهن - ؛ لم
تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها ؛ إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع
التي لم تكن معروفة في أسلافهم الذين مضوا ، وما نقصوا المكيال والميزان
إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم ، وما منعوا زكاة
أموالهم إلا منعوا القطر من السما ، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط
الله عليهم عدوًا من سوى أنفسهم ، أو قال من غيرهم فأخذوا بعض ما في
أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما نزل الله على نبيه
إلا جعل الله بأسهم بينهم ) .
أيها المسلمون : دل كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - على أنه
ما نزل بلاء إلا بذنب ، وما رفع إلا بتوبة ، فاستعينوا بالله على ذكره
وشكره وحسن عبادته ، وسارعوا إلى الطاعات من فرائض ومستحبات ، وجانبوا -
أيها المسلمون - المحرمات ؛ فإنها مجلبة للمساخط وعظيم العقوبات .
بادروا - أيها المسلمون - بالتوبة والاستغفار ، وحاسبوا أنفسكم قبل أن
تحاسبوا ، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتبع نفسه
هواها ونمنى على الله الأماني .
واعلموا - أيها المسلمون - : أن الدنيا هي دار الممر والعمل ومحاسبة النفس ،
وأن الآخرة هي دار القرار والجزاء والحساب ، فتفطنوا عباد الله قبل أن
يندم النادمون ولات ساعة مندم .
ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فعليه المستعان وعليه التكلان ، وهو حسبنا
ونعم الوكيل .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .