الكاتب : الشيخ تقي
الدين الهلالي
الحمد لله الذي جعل من كل شيء
تشتهيهنفس الإنسان حلالا وحراما، فأحل الحلال
وحرم الحرام، وجعل تحريمه لزاما. فقالتعالى:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌوَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَعَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌأَلِيمٌ} (النحل: 116-117). وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد
الذي أخرجت به عبادكالمؤمنين من الظلمات إلى
النور، وأمرتهم بالاقتصار على الحلال، وبينت لهم ما فيه منالأجور، وعلى آله وأصحابه الذين هم القدوة في جميع الأمور.
أما بعد:
فيقول العبدالفقير، إلى الكبير المتعالي، محمد تقي الدين الحسيني
الهلالي، سألني أحد الإخوانالصادقين، المتبعين
للنبي الأمين، عن حكم الله في مصافحة المرأة المسلمة للرجالالأجانب، الذين لا يحرم عليهم التزوج بها تحريما مطلقا.
فأقول وبالله
التوفيق:
أجمع المسلمون من
السلف والخلف على أن لمس المرأة الأجنبية في أي موضع منجسمها حرام ومعصية لله، وقد وقعت لي في ذلك قصة عجيبة في
بلاد الهند، كان لي تلميذوهو الشيخ عبد الباري
الزواوي من أهل مسقط في عمان، كنت رئيسا لأساتذة الأدب العربيفي ندوة العلماء بالهند، فقال لي: إن أخي يسكن مدينة كراتشي
وهو من التجار الكبار،فأرجو منك إذا مررت
بكراتشي أن تنزل عنده، ولا تنزل في أحد الفنادق وأعطاني عنوانه،فبحثت عنه فوجدته، ورأيته محافظا على الصلاة في أوقاتها
فسرني ذلك، ثم ركبناالسيارة وسار بنا إلى بيته،
وإذا هو قصر عظيم تحيط به حديقة، فجلست في الحديقة علىكرسي أقرأ في صحيفة، فشعرت بشيء وقف أمامي، فرفعت بصري فإذا
الرجل تقف إلى جنبهامرأة مكشوفة الصدر والعنق
والرأس والذراعين والساقين، فمدت إلي يدها للمصافحة،فلففت طرف طيلساني على يدي، ومددت يدي إليها، وقبضت يدها
وغضبت وانصرفت، فقال ليبعلها: كيف تهين زوجتي ؟
فقلت: إن كانت هناكإهانة فأنت الذي أهانها. فقال لي: لماذا امتنعت من مصافحتها
هل في يدها جرب، فقلتله: لا تغالط. إن جسم
المرأة كله يحرم لمسه على الأجنبي لمسه وموضع لا يجوز، فأخذيجادلني حتى انقطع.
والآن ينبغي أن أذكرالدليل على ما أفتيت به هنا. ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى
من حيي عنبينة.
قال الحافظ ابن كثير -
رحمه الله - فيتفسيره في آخر سورة الممتحنة عند
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَاجَاءَكَ
الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ
شَيْئًاوَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا
يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} الآية ما نصه: روى البخاري، عن عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه
وسلم أخبرته أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم
كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: {يَا أَيُّهَاالنَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ}
إلى قوله: {غَفُورٌرَحِيمٌ} قال عروة: قالت
عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "قد بايعتك" كلاما، ولا والله ما مست
يده يد امرأة في المبايعةقط، ما يبايعهن إلا
بقوله: "قد بايعتك على ذلك" هذا لفظ البخاري. وروى الإمام أحمد،عن أمية بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
في نساء لنبايعه، فأخذعلينا ما في القرآن:
"أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ" الآية، وقال: "فيمااستطعتن وأطقتن"، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا،
قلنا: يا رسول الله ألاتصافحنا ؟ قال: "إني لا
أصافح النساء إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة ".
وعن سلمى بنت
قيس- وكانت إحدى خالاترسول الله صلى الله عليه
وسلم - وقد صلت معه إلى القبلتين، قالت: جئت رسول الله صلىالله عليه وسلم، نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا
ألا نشرك بالله شيئاولا نسرق ولا نزني ولا نقتل
أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا،ولا نعصيه في معروف قال: "ولا تغششن أزواجكن" قالت:
فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلتلامرأة منهن: ارجعي
فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غش أزواجنا؟ قالت، فسألتهفقال: "تأخذ ماله فتحابي به غيره".
وقالالإمام أحمد عن عائشة بنت قدامة- يعنى ابن مظعون- قالت: أنا
مع أمي رائطة ابنةسفيان الخزاعية والنبي صلى
الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول: " أبايعكن على أن لاتشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن،
ولا تأتين ببهتان تفترينهبين أيديكن وأرجلكن،
ولا تعصينني في معروف- قلن نعم- فيما استطعن" فكن يقلن وأقولمعهن وأمي تقول لي: أي بنية نعم، فكنت أقول كما يقلن. وقال
البخاري، عن أم عطيةقالت: بايعنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقرأ علينا {أَنْ لَا يُشْرِكْنَبِاللَّهِ شَيْئًا} ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها،
قالت: أسعدتني فلانة،فأريد أن أجزيها، فما قال
لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلقت ورجعتفبايعها، وفي رواية: فما وفى منهن امرأة غيرها وغير أم سليم
ابنة ملحان. وقد كانرسول الله صلى الله عليه
وسلم يتعاهد النساء بهذه البيعة يوم العيد، كما روىالبخاري، عن ابن عباس، قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول
الله صلى الله عليه وسلموأبى بكر وعمر وعثمان،
فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد. فنزل نبي الله صلىالله عليه وسلم فكأني أنظر إليه حين يُجلس الرجال بيده، ثم
أقبل يشقهم حتى أتىالنساء مع بلال فقال: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُيُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا
وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَايَزْنِينَ وَلَا
يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍيَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا
يَعْصِينَكَ فِيمَعْرُوفٍ} حتى فرغ من الآية
كلها، ثم قال حين فرغ: "أنتن على ذلك؟" فقالت امرأةواحدة ولم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله، لا يدري حسن من هي،
قال: فتصدقن، قال: وبسط
بلال ثوبه، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال.
وعن عبادة بن
الصامت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلمفي مجلس فقال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا
تسرقوا ولاتزنوا ولاتقتلوا أولادكم- قرأ الآية
التي أخذت على النساء: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} فمن وفى منكما فأجره على الله،
ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له، ومنأصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر
له وإن شاء عذبه ". وقدروى ابن جرير، عن ابن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطابفقال: "قل لهن إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعكن على
أن لا تشركن باللّهشيئا" وكانت (هند بنت عتبة
بن ربيعة) التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء، فقالتهند وهي متنكرة: كيف تقبل من النساء شيئا لم تقبله من
الرجال؟ فنظر إليها رسول اللهصلى الله عليه
وسلم وقال لعمر: "قل لهن، ولا يسرقن"، قالت هند: والله إني لأصيب منأبى سفيان الهنات ما أدري أيحلهن لي أم لا، قال أبو سفيان:
ما أصبت من شيء مضى أوقد بقي فهو لك حلال، فضحك
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال: {وَلَايَزْنِينَ} فقالت: يا رسول الله وهل تزنى امرأة حرة، قال:
"لا واللهما تزنى الحرة " قال: {وَلَا يَقْتُلْنَ
أَوْلَادَهُنَّ} قالت هند: أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهمأبصر، قال: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ
بَيْنَ أَيْدِيهِنَّوَأَرْجُلِهِنَّ} قَالَ:
{وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}. قال: منعهن أن ينحنوكان نساء الجاهلية يمزقن الثياب، ويخدشن الوجوه، ويقطعن
الشعور، ويدعون بالويلوالثبور.
قال محمد تقي
الدين من المعلوم أنالنبي صلى الله عليه وسلم
معصوم من الذنوب، وأن المبايعة وهي المعاهدة كان الرجاليصافحونه عندها، فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من مصافحة
النساء حتى يبين أنمصافحة الرجال للنساء حرام،
وحتى لا يقتدي به الخلفاء الذين يجيئون من بعده، ثم إنمصافحة الرجال للنساء الأجنبيات مأخوذ من الأوروبيين
النصارى، وقد أمرنا بمخالفتهم،وهم لا يكتفون
بالمصافحة بل يرقص الرجل مع المرأة بطنا لبطن، فمن تشبه بهم فهو منهمكما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فالواجب على المرأة
المسلمة أن لا تسمح لرجلأجنبي أن يلمس شيئا من
جسمها، لا اليدين ولا غيرهما، إلا إذا كانت مريضة، ولم تجدامرأة تداويها، فحينئذ يجوز للطبيب (....) أن يداويها ولو
لمس جسمها ولا يستثنى منذلك زوج الأخت، ولا حمو
المرأة وهو أخ زوجها، ولا ابن عمها، ولا ابن خالها، لأنهمأجانب شرعا.
والله يوفقنا
جميعا للعمل بماأمرنا به وترك ما نهانا عنه أو
نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحمد للهرب العالمين.