ما تعلمته من مشايخنا
من
أفضل مقررات التعليم والتربية الاستفادة من خبرات وتجارب أساتذة الإنسان
ومشايخه ومن سبقه, وتطبيق ذلك في مجال حياته أياً كان تخصصه, وعمله,
وميدانه.
وفي هذه الأسطر أنقل للقارئ
الكريم شيئاً مما استفدته من مشايخي المباشرين لي بتدريس أو إشراف علمي, أو
حضور ندوة ونحو ذلك من أمثال شيخنا الإمام العلامة عبد العزيز بن باز,
وشيخي العلامة عبد الرزاق عفيفي, وشيخي صالح الأطرم وغيرهم كثير رحم الله
الجميع رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته ووفق الأحياء وجزاهم عني وعن طلاب
العلم خير الجزاء.
وهذه الفوائد والخبرات أخصصها
فيما يهم طالب العلم في مسيرته العلمية والعملية والدعوية, وأعرضها على
طبيعتها بدون تكلف.
ومن
ذلك:
1- المنهجية في العلم والتعلم
والبحث والمناقشة والمناظرة والسؤال, والقراءة, وتلخيص المسائل وغيرها,
والمقصود بذلك: أن يسير المتعلم وفق طريقة واضحة في تناوله للعلوم, أو
المسائل, كالتدرج في التعلم مثلاً من المختصرات وإتقانها إلى المتوسطات
والمطولات, وتقديم الأهم على المهم, والسير على ضوابط عامة في التعامل مع
سائر الفنون, ويدخل في ذلك:
أ- الجدية في التعلم.
ب- كيفية القراءة.
ج- ماذا أقرأ ؟.
د- وما الدروس التي أتابعها
؟.
هـ- وكيف أتعامل مع الإشكالات
العلمية ؟.
و- وما الذي أقدمه؟ وما الذي
أؤخره ؟.
..إلخ ذلك مما يحتاج إليه
المتعلم, ولخصت ذلك في رسالتي: (قواعد منهجية في طلب العلم) فليرجع إليها,
ومن ثم حتى يرتفع مستوى المتعلم إلى أن يعرف أساليب أهل العلم وطرائقهم في
عرض المسائل العقدية, والأصول في الاعتقاد, وما يتفرع عن ذلك من مسائل,
وكيفية التعامل معها وكذا عرض المسائل الفقهية المتفرعة عن قواعدها, وكيفية
الاستدلال لها, ومآخذ الاستنباط , وحكاية الخلاف بين العلماء ومنشئه في كل
مسألة, وأصول كل مذهب وطرائق الترجيح.
إن السير على هذه المنهجية
يسهل الطريق على الطالب, و يجعله يمشي برؤية واضحة, ويحصل علماً كثيراً,
ويدرك من خلالها كليات المسائل وجزئياتها, وتحل أمامه كثير من المشكلات
العلمية.
لقد تعلمت ذلك بوضوح أثناء
تدريس العلامة الشيخ صالح الأطرم –رحمه الله- لنا في مقرر الفقه عندما كان
يربط لنا بين مسائل كتاب الروض المربع الفرعية مع أصولها, ومع أدلتها, وكان
له عناية فائقة في ذلك, يدرك ذلك من لازمه فلم يكن كثير التفريع على
المسائل بقدر ما كان يربط المسائل الفرعية في قواعدها وأدلتها: وكذا عندما
كنا نقرأ عليه بعض المطولات في الفقه وبخاصة كتاب منتهى الإرادات في الفقه
الحنبلي.
وكذا ما تعلمته من شيخي
العلامة الكبير عبد الرزاق عفيفي –رحمه الله- عند إشرافه عليّ في رسالة
الدكتوراه فكان حريصاً –رحمه الله- على ربط مسائل البحث بمنهج مستقر, وكانت
الرسالة في تحقيق وتخريج مسند أبي يعلى الموصلي, ومن المعلوم أن قضايا
الجرح والتعديل قضايا متشعبة ودقيقة, فكان يحرص على إطراد المنهج, فكان نعم
المربي في ذلك, وقد استفدت منه عظيم الفائدة في ذلك فجزاه الله عني خير ما
يجزى أستاذاً عن تلميذه.
ولعلي أكتفي بهذين المثالين.
2- الدقة والتدقيق العلمي في
أخذ العلم وتحمله سواء كان حال استماع المتلقي من شيخه, أو قراءته من كتاب
أو بحث أو مقال, وعدم الاكتفاء بمجرد الفهم العام, أو ما يتبادر إلى الذهن,
أو الإعتماد الفردي في فهم المسألة أو تلقيها.
وهذا بلا شك منهج أيما منهج
فهو يوصل إلى الفهم السليم, ويقي –بإذن الله- من الزلل ويقلل الأخطاء ويعود
طالب العلم على النظر الدقيق, وينمي الذهن, ويشحذ الهمة, ويربي ملكة النقد
والاستنباط, ويشجع على فهم مناهج العلماء, وغير ذلك مما يحتاجه طالب العلم
في مرحلة الطلب وما بعد مرحلة الطلب, وطالب العلم في مرحلة الطلب حتى
الممات فهو آخذ ومعطي.
أذكر مرة من المرات في إحدى
الجلسات مع الشيخ عبد الرزاق عفيفي –رحمه الله- أثناء مرحلة الإشراف أنني
نقلت أحكام أئمة الجرح والتعديل حول راو معين, ثم لخصت أقوالهم, فوضع خطاً
تحت هذا التلخيص فلما سألته مالمراد بهذا الخط؟ قال: راجع ما قاله ابن حبان
–رحمه الله- وتأمله, فلما رجعت عرفت موضع الملاحظة وهي عدم التدقيق في
النظر إلى مقاله.
وقد ذكر لي شيخنا العلامة عبد
الله بن جبرين –رحمه الله- أن عندما تستعصي علينا مسألة أثناء الطلب نرجع
إلى الشيخ صالح الأطرم ليحلها لنا فيحلها, وذلك لما يتمتع به من النظر
الدقيق رحم الله الجميع.
أقول: وهذه من أوضح صفات
العلامة الشيخ صالح الأطرم حتى في مسائل النظر في الواقع والحكم عليه, وكم
كان ذلك ظاهراً أثناء ما يسمى (بأزمة الخليج) أثناء دخول صدام حسين للكويت
عام 1411هـ, ويعرف ذلك من جالس الشيخ وصاحبه.
ولهذا علينا ونحن نقرأ أو
نبحث أو نستمع إلى تقرير علمي أو نريد إصدار حكم على وضع أن ندقق ونمعن
النظر, فهذا من أعظم وسائل التعلم وتثبيت العلم.
3- التؤدة والتأني وعدم
العجلة, وهذه من المقررات النظرية التي يدركها كل مسلم في بدهيات السمات
والأخلاق أنها من المحامد الكبرى, والصفات الجميلة التي يحمد فيها المرء
وتعد من منقابه.
لكن أن يرى ذلك صورة تطبيقية
في مشايخه وأساتذته في مواقع عملية يمارسها الناس فهذا مما يعز وجوده,
ويفتقر إليه طالب العلم وبخاصة في الملمات والمحن والأزمات والفتن, وقد كان
من أقدار الله تعالى أن عايشت كثيراً من مشايخي في هذا العصر الذي مرت فيه
جملة من الأحداث مسّ بلادنا منها مساً مباشراً, أو غير مباشر.
وتظهر هذه السمة العليّة,
والمحمدة الفذة في هؤلاء القدوات ومما أذكره من الأحداث الكبرى والتي لا
تنسى عندما اعتدى صدام على الكويت وأظهر تهديده إلى المملكة, فماج الناس,
وصاحوا كل يدلي بدلوه في كيفية المواجهة, واتخاذ الموقف المناسب, فاستعجل
ناس في سن الشباب بصورة سريعة لاتخاذ مواقف سلبية يرونها قمة الإيجابية دون
أن يكون منها تفقيط علمي, أو معالم المنهج سوى كلمات فضفاضة تفوح برائحة
المعارضة لما اتخذ من مواقف وهذا في مختلف أنحاء العالم حتى جعل كثيراً ممن
كان في سن الشباب تختلط عنده المفاهيم ولم يعد يدري ما الصواب؟ وكأنه قد
حمل الدنيا كلها على رأسه.
في هذه الفتنة يأتي صوت
التأني والتؤده من علماء البلد الكبار ممثلين في سماحة الإمام عبد العزيز
بن باز أعلا الله منزلته في الفردوس لتضع النقاط على الحروف في الموقف
السليم فهدأت نفوس مضطربة واستقرت, واتضح لهم الحق عندما خفي عليهم, وارتاح
كثيرون.
لست بصدد بسط الموقف بقدر ما
أنا معني بإبرازه وهو أهمية التأني والتثبت وعدم العجلة في التلقي أو
الأحكام على الموقف أو على الناس فضلاً أن تكون هذه المواقف على علماء.
وكم نحن بحاجة إلى هذا المنهج
العظيم لنسلم في حياتنا, ولا نتأسف على ماضي, ولا نخطئ في حق آخرين, ولا
نندم يوم لا ينفع الندم.
إن من الخير العظيم للفرد
وبخاصة طالب العلم أن يتناول منهج حياته كله بهذا المنظار, وغني عن القول
إن التثبت والتأني وعدم العجلة لا يعني الركون والفتور والكسل وعدم
المبالات أو الاهتمام في الشأن العام بل هو حافز لأن يخطو المسلم خطواته
بكل ثقة وطمأنينة.
ومن الخير اقتفاء القدوات في
هذا الباب العظيم فالله سبحانه وتعالى جعلهم كذلك.
أشهد بحق أن أعظم ما تعلمته
من مشايخنا هذا المنهج العظيم ومن الخير نقله لكل المحبين والمتعلمين بل
لكل المسلمين.
وإلى لقاء آخر في المزيد مما
تعلمته لأنقله لكم على طبيعته بدون أي تكلف أو تعميق.
سدد الله الخطى وحقق الآمال.